فصل: بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخِدْمَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخِدْمَةِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَخْدِمُ خَادِمًا قَدْ كَانَتْ تَخْدُمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَجَعَلَتْ الْخَادِمُ تَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهَا بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا لِلْخِدْمَةِ فَمَا دَامَ مُسْتَدِيمًا لِلْمِلِكِ فِيهَا فَهُوَ دَلِيلُ اسْتِخْدَامِهَا وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُهُ قَبْلَ الْيَمِينِ بِاسْتِخْدَامٍ كَانَ مِنْهُ فَإِذَا جَعَلَتْ تَخْدُمُهُ عَلَى حَالِهَا، وَلَمْ يَنْهَهَا فَهُوَ مُسْتَخْدِمٌ لَهَا بِمَا سَبَقَ مِنْهُ حَتَّى لَوْ نَهَاهَا ثُمَّ خَدَمَتْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّهْيِ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الِاسْتِخْدَامِ السَّابِقِ وَلِأَنَّ إدَامَةَ الْمِلْكِ دَلِيلُ الِاسْتِخْدَامِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى خَادِمٍ لَا يَمْلِكُهَا أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهَا فَخَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِانْعِدَامِ الِاسْتِخْدَامِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِيَكُونَ طَالِبًا خِدْمَتَهَا بِاسْتِدَامَةِ ذَلِكَ الْمِلْكِ أَوْ لِيَجْعَلَ الِاسْتِخْدَامَ السَّابِقَ بِاعْتِبَارِهِ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْدُمَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَادِم وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ طَلَبُ الْخِدْمَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ بَيْتِهِ فَإِنَّهُ خِدْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَّخِذُ الْخَادِمَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهَا وَضُوءًا أَوْ شَرَابًا، أَوْ أَشَارَ، أَوْ أَوْمَأَ إلَيْهَا بِذَلِكَ فَقَدْ اسْتَخْدَمَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ ظَاهِرٌ مِمَّنْ تَرَفَّعَ عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ خَدَمَهُ بِالْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِهَا فَأَشَارَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ إنْ أَعَانَتْهُ أَوْ لَمْ تُعِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ طَلَبُ الْإِعَانَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ تَفْعَلَهُ فَلَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ حَتَّى تُعِينَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعَانَةُ دُونَ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِذَا ذَكَرَ السَّبَبَ وَعُنِيَ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ.
فَإِذَا حَلَفَ لَا يَخْدُمُهُ خَادِمُ فُلَانٍ فَجَلَسَ عَلَى مَائِدَةٍ مَعَ قَوْمٍ يَطْعَمُونَ، وَذَلِكَ الْخَادِمُ يَقُومُ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَدَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَوُجِدَ بِهِ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي حَقِّ الْحَالِفِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّ جِوَارِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْدُمْنَ الضِّيفَانَ كَاشِفَاتِ الرُّءُوسِ مُضْطَرِبَاتِ الثَّدْيِ.
وَإِنْ كَانَ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَخْدَمَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَادِمِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَالِاسْتِخْدَامُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا وَهُوَ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا فَلِهَذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الْيَمِينِ فِي الرُّكُوبِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ حِمَارًا أَوْ فَرَسًا أَوْ بِرْذَوْنًا أَوْ بَغْلًا حَنِثَ وَكَذَلِكَ إنْ رَكِبَ غَيْرَهَا مِنْ الدَّوَابِّ كَالْبَعِيرِ وَالْفِيلِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً وَعُرْفًا فَإِنَّ الدَّابَّةَ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ التَّعْمِيمَ فِي كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ وَقَعَ يَمِينُهُ عَلَى فِعْلِ الرُّكُوبِ فَيَتَنَاوَلُ مَا يَرْكَبُ مِنْ الدَّوَابِّ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَهُوَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرُّكُوبَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا فِي الْأَنْعَامِ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِقَوْلِهِ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} وَبِأَنْ كَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَالْبَعِيرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يَتَنَاوَلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَقَرَ وَالْجَامُوسَ يُرْكَبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؟ ثُمَّ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ رَكِبَ دَابَّةَ الْبَقَرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ عَنِي الْخَيْلَ وَحْدَهُ لَمْ يُدَنْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَرْكَبُ وَعَنِيَ الْخَيْلَ وَحْدَهَا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِ فِعْلُ الرُّكُوبِ، وَالْخَيْلُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ دُونَ مَا لَا لَفْظَ لَهُ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِرْذَوْنًا فَرَكِبَ فَرَسًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْبِرْذَوْنَ فَرَسُ الْعَجَمِ وَالْفَرَسُ اسْمُ الْعَرَبِيِّ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَرَبِيًّا فَكَلَّمَ عَجَمِيًّا أَوْ عَلَى عَكْسِ هَذَا لَمْ يَحْنَثْ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْلِ فَرَكِبَ فَرَسًا أَوْ بِرْذَوْنًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْلِ يَجْمَعُ الْكُلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الْآيَةَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْغَازِي السَّهْمَ بِالْبِرْذَوْنِ وَالْفَرَسِ جَمِيعًا.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَحُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الرُّكُوبِ وَهُوَ مَا رَكِبَهَا بَلْ حُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهِ كَالْجَمَادَاتِ.
وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً عُرْيَانًا أَوْ بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ رَكِبَهَا وَالرُّكُوبُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مُعْتَادٌ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً لِفُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً لِعَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَيَكُونُ حَانِثًا بِهِ، وَكَوْنُهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ كَكَوْنِهَا فِي يَدِ أَجِيرِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى فُلَانٍ وَهَذِهِ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اكْتَسَبَهَا وَعُرْفًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَالُ: دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ وَشَرْعًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» فَقَدْ أَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا أَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ النِّسْبَةُ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمِلْكِ فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ وَبِرَقَبَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ.
وَإِنْ نَوَاهَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا نَوَاهَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى إضَافَةَ الْمِلْكِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ نَوَاهَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ اسْتِغْرَاقُ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ إضَافَةُ الْمِلْكِ وَاسْتِغْرَاقُ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى.
وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً لِمُكَاتَبِ فُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَالثَّوْبُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ إضَافَةَ الْمِلْكِ فَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مَا بَقِيَ مُكَاتَبًا، وَإِنْ اعْتَبَرَ إضَافَةَ النِّسْبَةِ فَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْمُكَاتَبِ دُونَ الْمَوْلَى.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَرَكِبَ سَفِينَةً أَوْ مَحْمَلًا أَوْ دَابَّةً حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَرْكَبَ هُنَا وَكُلُّ هَذَا مَرْكَبٌ وَالْمَرْكَبُ مَا يُرْكَبُ، وَمِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ تُسَمَّى السَّفِينَةُ مَرْكَبًا، وَكَذَلِكَ شَرْعًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِهَذَا السَّرْجِ فَزَادَ فِيهِ شَيْئًا أَوْ نَقَصَ مِنْهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ ذَلِكَ السَّرْجُ الَّذِي عَيَّنَهُ وَقَدْ رَكِبَ بِهِ وَالنُّقْصَانُ وَالزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ لَا يُبَدِّلُ أَصْلَهُ.
وَلَوْ بَدَّلَ السَّرْجَ نَفْسَهُ وَتَرَكَ اللِّبْدَ وَالصُّفَّةَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّرْجِ لِلْحَنَا أَصْلٌ وَاللِّبْدُ وَالصُّفَّةُ وَصْفٌ فِيهِ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ الْوَصْفِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى الْيَمِينِ ضِيقُ السَّرْجِ وَسَعَتُهُ وَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْحَنَا دُونَ اللِّبْدِ وَالصُّفَّةِ.
وَإِذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ مَالِهِ مَالٌ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَى مُفْلِسٍ أَوْ عَلَى مَلِيٍّ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً فَالْمَالُ مَا يُتَمَوَّلُ، وَتَمَوُّلُ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَالْمَالُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ وَهُوَ بِالْقَبْضِ، وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ غَصَبَهُ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ وَأَقَرَّ بِهِ أَوْ جَحَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ أَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ إذَا كَانَ جَاحِدًا لَهُ فَهُوَ تَاوٍ فِي حَقِّ الْحَالِفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِاعْتِبَارِهِ؟ وَالتَّاوِي لَا يُمْكِنُ تَمَوُّلُهُ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مَالًا لَهُ.
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ إنْسَانٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ عَيْنُ مَالِهِ وَيَدُ مُودَعِهِ كَيَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا مَتَى شَاءَ، وَأَنَّهُ تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهَا مُطْلَقًا؟ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَالْغَاصِبُ مُقِرٌّ بِهِ قِيلَ هُنَا: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، لَمَّا كَانَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا بِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ يَنْفُذُ فَهُوَ كَالْوَدِيعَةِ وَقِيلَ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إذَا كَانَ قَاهِرًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا وَفِي الْعُرْفِ إذَا صُودِرَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ قَدْ افْتَقَرَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ.
وَإِنْ كَانَ مَنْ صَادَرَهُ مُقِرًّا وَفِي بَابِ الْأَيْمَانِ الْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ.
وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ مَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَجِبُ فِي النُّقُودِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ؟ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ النِّصَابِ هُنَاكَ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهَا، أَمَّا هُنَا اسْمُ الْمَالِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَكَذَلِكَ مَالُ التِّجَارَةِ وَالسَّائِمَةِ كَانَ ذَلِكَ مَالًا حَقِيقَةً وَشَرْعًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا.
وَإِنْ نَوَى الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ خَاصَّةً لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ عُرُوضٌ أَوْ حَيَوَانٌ غَيْرُ السَّائِمَةِ لَمْ يَحْنَثْ وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ؟ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِمَالٍ شَرْعًا وَعُرْفًا حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا وَلَا يُعَدُّ صَاحِبُهَا مُتَمَوِّلًا بِهَا وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَكَانَ لَهُ عَبْدٌ لَهُ مَالٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الْوَقْتِ فِي الْيَمِينِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ إذَا صَلَّى الْأُولَى فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ وَالْأُولَى هِيَ الظُّهْرُ فِي لِسَانِ النَّاسِ فَلَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الظُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ.
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيهِ كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ وَقَدْ حَلَفَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَهَذَا الشَّهْرُ يَدْخُلُ فِي يَمِينِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ فِيهِ دِرْهَمًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ فِي الشَّهْرِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ آخِرِهِ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي فِيهِ أَقْرَبُ الشُّهُورِ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فِي كُلِّ يَوْمٍ، كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ دَاخِلًا فِي الْجُمْلَةِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ نُجُومًا عِنْدَ انْسِلَاخِ كُلِّ شَهْرٍ فَحَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ النُّجُومَ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَانَ لَهُ ذَلِكَ الشَّهْرَ الَّذِي حَلَّ فِيهِ النَّجْمُ فَمَتَى أَعْطَاهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ الشَّهْرِ فَقَدْ بَرَّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْبِرِّ إعْطَاءَ كُلِّ نَجْمٍ بَعْدَ حُلُولِهِ فِي الشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ مِنْ حِينَ يُهِلُّ الْهِلَالُ إلَى أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ فَإِذَا أَعْطَاهُ فِي ذَلِكَ أَوْ فِي آخِرِهِ فَقَدْ تَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ عَاجِلًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَالْعَاجِلُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ الشَّهْرُ؛ لِأَنَّ الْآجَالَ فِي الْعَادَةِ تُقَدَّرُ بِالشُّهُورِ، وَأَدْنَى ذَلِكَ شَهْرٌ فَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا عَاجِلًا، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِذَا كَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: مَلِيًّا فَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعِيدُ، قَالَ تَعَالَى {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} وَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى وَإِلَّا كَانَ عَلَى الشَّهْرِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ الْبَعِيدَ وَالْأَجَلَ سَوَاءٌ.
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْهُ نِصْفُهُ، وَإِنْ مَضَى مِنْهُ نِصْفُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ لِلشَّهْرِ أَوَّلًا وَآخِرًا، فَأَوَّلُهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ، وَالْآخِرُ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ النِّصْفَ الْآخَرَ.
وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ أَنَّ يَمِينَهُ يَتَنَاوَلُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ مَالَهُ عَلَيْهِ حِينًا فَأَعْطَاهُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى السَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وَالْمُرَادُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَمَا نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ حِينَ يَخْرُجُ الطَّلْعُ إلَى أَنْ يُدْرَكَ التَّمْرُ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ السَّاعَةَ فَإِنَّهُ إذَا قَصَدَ الْمُمَاطَلَةَ سَاعَةً وَاحِدَةً لَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَبَدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَالزَّمَانُ فِي هَذَا كَالْحِينِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: لَمْ أَلْقَك مُنْذُ حِينٍ، لَمْ أَلْقَك مُنْذُ زَمَانٍ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ ذِكْرُهُ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ مُنَكَّرًا؛ لِأَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَمَّا صَارَ مَعْهُودًا فِي الْحِينِ وَالزَّمَانِ فَالْمُعَرَّفُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ.
وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ.
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا وَقَالَ: دَهْرًا، فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ مُعَرَّفًا فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} فَقَدْ جَعَلَ الْحِينَ مِنْ الدَّهْرِ جُزْءًا فَيَبْعُدُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي التَّقْدِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُمَا يَقُولَانِ الدَّهْرُ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: لِغَيْرِهِ لَمْ أَلْقَك مُنْذُ دَهْرٍ لَمْ أَلْقَك مُنْذُ حِينٍ وَفِي أَلْفَاظِ الْيَمِينِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعُرْفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قَدْ عَلِمْت بِالنَّصِّ أَنَّ الْحِينَ بَعْضُ الدَّهْرِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي تَقْدِيرِ الدَّهْرِ شَيْئًا نَصًّا وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ وَلَا عَيْبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حِينَ لَمْ يَحْضُرْهُ جَوَابٌ ثُمَّ قَالَ: طُوبَى لِابْنِ عُمَرَ سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ: لَا أَدْرِي؟ وَقِيلَ إنَّمَا قَالَ: لَا أَدْرِي؛ لِأَنَّهُ حَفِظَ لِسَانَهُ عَنْ الْكَلَامِ فِي مَعْنَى الدَّهْرِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالِقُ الدَّهْرِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيمَا يُؤْثِرُ عَنْ رَبِّهِ: اسْتَقْرَضْت مِنْ عَبْدِي فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَنِي، وَهُوَ يَسُبُّنِي وَلَا يَدْرِي فَسَبَّ الدَّهْرَ وَيَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وَإِنَّمَا أَنَا الدَّهْرُ» حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ فَلِهَذِهِ الْآثَارِ الظَّاهِرَةِ حَفِظَ لِسَانَهُ وَقَالَ لَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ.
وَهُوَ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ خَيْرِ الْبِقَاعِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي، فَصَعِدَ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ نَزَلَ وَقَالَ: سَأَلْت رَبِّي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَخَيْرُ أَهْلِهَا مَنْ يَكُونُ أَوَّلَ النَّاسِ دُخُولًا وَآخِرُهُمْ خُرُوجًا» فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ مِنْ الْكَمَالِ لَا مِنْ النُّقْصَانِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ فِيمَا فِيهِ مَعْهُودٌ وَالْمَعْهُودُ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الشُّهُورُ وَالسِّنِينُ كُلَّمَا دَارَتْ عَادَتْ، وَفِي الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَلَيْسَ فِي السِّنِينَ مَعْهُودٌ فَيُسْتَغْرَقُ الْعُمْرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْكَثْرَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَأَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ الْعَشَرَةَ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَذَلِكَ فِي الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى الْعَشَرَةِ مِمَّا سَمَّى.
وَإِنْ قَالَ: أَيَّامًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ وَأَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ سَوَاءٌ قَالَ أَيَّامًا أَوْ قَالَ الْأَيَّامُ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ هَذَا غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ثَمَّةَ.
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ غَدًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِذَا أَعْطَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَصِفَ النَّهَارُ بَرَّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ لِلنَّهَارِ أَوَّلًا وَآخِرًا كَمَا لِلشَّهْرِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ مَعَ حِلِّ الْمَالِ أَوْ عِنْدَ حِلِّهِ أَوْ حِينَ يَحِلُّ الْمَالُ أَوْ حَيْثُ يَحِلُّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهَذَا يُعْطِيه سَاعَةَ يَحِلُّ فَإِنْ أَخَّرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ مَعَ لِلضَّمِّ، وَعِنْدَ لِلْقُرْبِ، وَحِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ السَّاعَةُ عَادَةً فَكَأَنَّهُ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ سَاعَةَ يَحِلُّ فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَوَجَأَهُ أَوْ خَنَقَهُ أَوْ قَرَصَهُ أَوْ مَدَّ شَعْرَهُ أَوْ عَضَّهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِعْلٌ مُوجِعٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ أَوْ التَّأْدِيبِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُوجِعٌ مُوَصِّلٌ الْأَلَمَ إلَى قَلْبِهِ فَكَانَ ضَرْبًا، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةِ الْقَاصِدُ إلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَيُسَمَّى فِعْلُهُ ضَرْبًا وَمَنْ يُعَايِنُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُسَمِّيه ضَارِبًا عَبْدَهُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَخَفَّفَ بَرَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهِ أَصْلُ الضَّرْبِ دُونَ نِهَايَتِهِ وَالْخَفِيفُ كَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَمُطْلَقُ الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُ نِهَايَةَ الشَّيْءِ وَإِنْ جَمَعَهَا جَمَاعَةٌ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِهَا لَمْ يَبَرَّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ضَارِبًا لَهُ بِمَا يَصِلُ إلَى بَدَنِهِ وَالْوَاصِلُ إلَى بَدَنِهِ بَعْضُ السِّيَاطِ حِينَ جَمَعَ الْكُلَّ جَمْعًا فَلِهَذَا لَا يَبَرُّ.
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِهِ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ لَهُ شُعْبَتَانِ خَمْسِينَ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الشُّعْبَتَانِ بَرَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ شُعْبَةٍ سَوْطٌ وَاقِعٌ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا فَيَصِيرُ بِكُلِّ إيقَاعٍ ضَارِبًا لَهُ سَوْطَيْنِ فَإِذَا ضَرَبَهُ خَمْسِينَ فَقَدْ ضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَهُوَ شَرْطُ بِرِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يَصِيرُ مُقِيمًا حَدَّ الزِّنَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ؟ فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.